يعاني الجسم السياسي الأردني من حالة إنهاك واستنزاف متفاقمين. فالحكم يعيد اجترار نفسه ضمن نفس المجموعة من المسؤولين الذين أصبحوا عبئاً على النظام أكثر من كونهم سنداً له. وبواقع الممارسة، عزل النظام نفسه عن قاعدته الشعبية خصوصاً المتعلمة والمثقفة والناشطة سياسياً مما جعله يدور في حلقة مفرغة. واستعاض الحكم عن أسلوب الحوار كوسيلة للتواصل مع قاعدته الشعبية بأسلوب إدارة القطيع حيث يتم استعمال سطوة الدولة لفرض وجهة نظر الحكم أو للحصول على تأييد شعبي مصطنع لسياسات أو قرارات حكومية لا تحظى أصلاً بشعبية أو قبول. وقد ساهم أولئك المسؤولين في تفاقم الوضع نتيجة قناعاتهم بأن الشعب لا يملك حولاً و لا قوة، وأنهم بالتالي فوق الشعب وفوق القانون وأن ما هو غير مباح يمكن أن يُستباح.
لقد خلق الشعور بفقدان قنوات الاتصال والتواصل بين الحكم والشعب حالة من الإحباط الشعبي الذي أخذ يعبر عن نفسه بهبات من الغضب حيناً والاحتجاجات أحياناً، تطورت بالنتيجة ومع حلول الربيع العربي إلى المطالبة الشعبية ببرامج إصلاح متشعبة، استندت إلى قاعدة صلبة من إجماع وطني على محاربة الفساد ومحاكمة الفاسدين واسترجاع المال العام. ولكن نظراً لحالة الانغلاق التي يعيشها النظام ضمن إطار تلك الأقلية الحاكمة المنغلقة على نفسها، يبدو أن النظام اعتبر هذا المطلب وكأنه لائحة اتهام ضده. وتضافرت قوى مؤسسة الحكم لمقاومة هذا المطلب إما دفاعاً عن النفس أو دفاعاً عن الافتراض الخاطىء بأن في هذا المطلب إدانة للجميع. وابتدأت المسيرة المؤلمة التي صبغت العلاقة الغامضة بين الحكم والشعب وتراوحت بين المسايرة والاسترضاء والاحتواء إلى الالتفاف على مطالب الإصلاح إلى أن انتهت بانتصار قوى الشد العكسي ضمن مؤسسة الحكم وتُوِّجَ هذا الانتصار بالإعلان عن تشكيل أسوأ حكومة شهدها الأردن منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن وهي حكومة فايز الطراونة. وعادت قوى الانغلاق لتمارس سياساتها العرفية بشكل علني وابتدأت عملية البطش بحرية الرأي والتعبير وكذلك بقيادات الحراكات الشبابية وقادة الرأي العام في الأردن. ويبقى السؤال الكبير يلوح في ذهن الكثيرين، إذا كان الحكم في هذا المزاج العدواني ، فمن سيشفع للشعب الأردني ومن سيقف إلى جانبه في مواجهة هذا العدوان القادم من مؤسسة الحكم على حقوقه الدستورية خصوصاً وأن الجميع راغب في المحافظة على سلمية الحراك الشعبي ومطالب الإصلاح؟
عندما ينحدر مستوى أداء بعض أدوات الحكم في تعاملها مع المعارضة إلى حد الردح والكذب والشتيمة ، كما تجسده بعض الصحف المحسوبة على النظام وكذلك تصريحات بعض المسؤولين، فماذا يتبقى؟ وماذا عن البديل الحضاري المتمثل في الحوار وقبول الرأي الآخر والانحناء أمام رغبة الأغلبية؟ إن تشويه الحقائق والتلاعب بها لن يؤدي في نهاية الأمر إلا إلى خلق أوهام كاذبة لدى الحاكم، وغضب مكبوت أو معلن لدى المحكوم. وهكذا، فإن الإدعاء الرسمي الأردني بأن المعارضة ومطالب الإصلاح محصورة بالحركة الإسلامية هو إدعاء غير صحيح ويهدف إلى خلق انطباع عام داخلي وخارجي بأن الرهان هو بين الحكم والاستقرار من جهة والحركة الإسلامية وأسلمة الدولة الأردنية وبالتالي الفوضى من جهة أخرى. لعبة شيطانية لا تخفى على أحد. ومع ذلك فإننا لسنا بصدد تفنيد مناورات واتهامات ومخططات حكومية تستهدف التضليل والإلهاء ، بقدر ما نحن بصدد الغوص في عمق الحقيقة بهدف استكشاف ومعرفة ما نحن مقبلون عليه، وما هو مخبأ للأردن والأردنيين. القليل جداً قد يعلم كنه ما نحن بصدد الحديث عنه، ولكن الأغلبية الساحقة قد حُجبت عنها الحقيقة وخضعت لعملية تضليل رافقت مسيرة الدولة منذ نشأتها وحتى الآن.
لقد تمكنت الدولة الأردنية منذ نكبة فلسطين من العيش ببحبوحة فاقت إمكاناتها الحقيقية. بحبوحة مصطنعة أبقت هذه الدولة قادرة على الاستمرار ولكن دون السماح لها بترف العيش الرغيد. معادلة محسوبة بدقة حتى لا تتجاوز هذه الدولة الخطوط الحمراء المرسومة لها، والمهمات الثقيلة الملقاة على كاهلها. فالفقر الزائد قد يدفع إلى الثورة والترف الزائد قد يوهم الضعيف بأنه قادر والصغير بأنه كبير. وهكذا، فقد عاش الأردن منذ نشأته معتمداً على مساعدات خارجية أضعفت من استقلاليته السياسية ورهنت مواقفه برضا الدول المانحة. وتم بناء الاقتصاد الأردني على أساس أنه اقتصاد رعوي والمنظومة الاجتماعية باعتبارها منظومة رعوية بهدف إبقاء معظم السكان مرهونين للحكم. ومن هنا نرى أن معظم ميزانية الدولة الأردنية تذهب إلى الرواتب ، ورخاء الشعب أو معاناته هي أيضاً مرهونة للحكم وسياساته وقراراته الاقتصادية. وقد وَلَّد هذا الواقع شعوراً عاماً بأهمية استمرار الحكم واستقرار الدولة حتى يبقى النظام الرعوي قادراً على تلبية الحد الأدنى من المطالب الحياتية للشعب. وقد شجع هذا الواقع العجيب الحكم على اعتبار ما تملكه الدولة مِنَّة من الحاكم وهو صاحب الفضل في كل شيء. وترجم هذا الواقع نفسه في استبدال السياسات الحكومية بالمكرمات، وأصبح الشعب ينظر إلى الحكم وليس إلى الحكومة في كل ما يريد وما لا يريد. ولا عجب أن يعتبر الحكم، انطلاقاً من ذلك، أن مطالب الإصلاح هي اقرب إلى نكران الجميل منها إلى الحق الطبيعي للشعب. وأصبح تعامله مع تلك المطالب أيضاً بمنظور المكرمات مما يتنافى وأبسط مطالب الإصلاح الحقيقي.
المشكلة التي تجابهها المعارضة الأردنية الآن هي في كون القضايا الإصلاحية التي تطرحها كقضايا داخلية تجيء في أدنى سلم الأولويات بالنسبة للعالم الخارجي في علاقته مع النظام الأردني . وقد ساهم في تكريس ذلك موقف الشعب الأردني من معاهدة وادي عربة وانحسار التأييد لها بشكل متواصل منذ التوقيع عليها وحتى الآن.
إن وجود الدولة الأردنية واستمرارها كان مرتبطاً منذ البداية بالقضية الفلسطينية والمصالح الإسرائيلية. والمطلوب من الأردن إقليمياً أهم لمعظم دول العالم مما يريده الأردنيون لأنفسهم من إصلاحات داخلية. وما يريده الأردنيين من إصلاحات لنظامهم السياسي لن يحظى بأي دعم خارجي إذا كان ثمن ذلك إضعاف قدرته على القيام بالواجبات المناطة به فيما يتعلق بإسرائيل وبرنامج التسوية النهائية. فالمشكلة التي تجابه الأردن، في الحقيقة، هي في كون القضايا المتعلقة بالإصلاح وحقوق المواطنين في الأردن تأتي في أدنى سلم الأولويات بالنسبة للعالم الخارجي في علاقته مع الأردن. فما يهم العالم الخارجي فيما يتعلق بالأردن هي استمرار قدرته على الاستجابة لمتطلبات الأمن الإسرائيلي والمصالح الإسرائيلية التي تتلخص في النهاية في حل سلمي للمشكلة الإسرائيلية وفي تنظيف تبعات هذا الحل سواء أكان دور الأردن فيه كمنطقة عازلة أو كجسر موصل للتطبيع، أو كوعاء يستوعب ذيول وتبعات ذلك الحل.
وفي كل الأحوال، فإن الدعم لمثل هذا الدور لا يأتي من القاعدة الشعبية العريضة للأردنيين، ولا من المعارضة الأردنية، ولكن من الحكم والمؤسسات التابعة له. لقد ناضل الشعب الأردني لما يزيد عن ستين عاماً لتعديل المسار المرسوم للدولة الأردنية بشكل يعيد رسم الدور المناط بها لمصلحة الشعب، ولكن يد الحكم كانت دائماً أقوى. فقد ارتبط بقاء الحكم ببقاء الدولة، وارتبط بقاء الدولة بقدرتها على القيام بالواجبات المناطة بها.
المعادلة إذاً واضحة، فقدرة النظام في الأردن على الوفاء بالتزاماته أو بما هو مطلوب منه تجاه إسرائيل وأمنها ومصالحها وإلزامه بذلك هو أكثر أهمية من إلزامه باحترام حقوق الإنسان الأردني. وهكذا، فإن ما يعتقده معظم الأردنيين بأن ما نحن بصدده من مطالب إصلاحية هو شأن أردني قد يثبت خطأه في نهاية المطاف. ما نحن بصدده هو، في الحقيقة، أكبر من الأردن. فالأردن وُلِد وكتابه بيساره وأمره محسوم. وعلاقة القوة التي تحكم أطراف المعادلة السياسية فيه ما زالت حتى الآن خاضعة لتلك المعادلة. وقد استوعب النظام الأردني ذلك، ومن هنا فإن تعامله مع الشعب يأتي بفوقية واضحة أساسها قناعته بأن معادلة القوة التي تحكم بقاءه وترغب في استمراره أقوى من معادلة القوة الداخلية التي تسعى إلى تحجيمه ووضع قيود على سلطاته المطلقة. وبين هذا وذاك، فإن على الشعب الأردني أن يسعى لتغيير واقعه نحو الأفضل، خصوصاً وأن مطلبه الإصلاحي الرئيسي باستبدال النظام الرئاسي الملكي بالنظام النيابي الملكي هو مطلب عادل ودستوري.
إن بقاء النظام هو خيارٌ أردنيٌ حقيقيٌ، ولكنه أيضاً خيارٌ غربيٌ مرتبطٌ بالدور المرسوم للأردن. وعلى الأردنيين العمل على إيجاد معادلة توفق بين بقاء النظام كخيار أردني والإصلاح السياسي كمطلب أردني وفك الارتباط بين الأردن والدور المرسوم له كهدف أردني.
فالأردن إذا كان بنظر البعض حالة طارئة فهذه هي مشكلة من يؤمن بذلك ، إلا أن الشعب الأردني ليس كذلك وهو مكون أصيل وجزء حقيقي من تاريخ وتراث المنطقة لا يجوز إهماله والتعامل معه باعتباره كماً لا قيمة له. وتحويل قضايا الشعب الأردني ومطالبه العادلة إلى حالة اعتداء على الشرعية أمرٌ مرفوضٌ ولا يمكن القبول به. فالشرعية أساسها الشعب حسب الدستور الأردني الذي ينص على أن "الأمة هي مصدر السلطات". والدولة الأردنية يجب أن تكون تجسيداًً لإرادة الشعب الأردني أمينة على تلك الإرادة أولاً وأخيراً وليست أمينة على قرار وزير المستعمرات البريطاني قبل ما يقارب من مائة عام. إن الوفاء المطلوب هو لإرادة الشعب ومصلحته وهذا هو أساس الشرعية الحقيقية. والشعب الأردني الذي رافق تأسيس الدولة وابتدأ كمجموعات من أصول مختلفة قد أصبح الآن شعباً واحداً متجانساً ومتلاحماً له وطن يدافع عنه ويعيش في كنفه، وعليه واجب إنقاذه من الإرث التاريخي الذي فرضه الاستعمار على الدولة ورافقها منذ تأسيسها.
[نشر للمرة الأولى في جريدة ”القدس العربي“ اللندنية وجدلية تعيد نشره بالإتفاق مع الكاتب]